مقالات

موريتانيا: الجمهورية التي بيعت قبل أن تُهزم

 

مقال رأي بقلم أحمد جبريل عبد الله

لا شك أن المقال الموسوم بـ “موريتانيا: الجمهورية المهزومة” قد لمس وجدان الكثيرين، لما تضمنه من صدق في التشخيص وجرأة في توصيف مظاهر الانهيار التي تعرفها الدولة الموريتانية اليوم، غير أن الإنصاف الفكري يقتضي أن نعود إلى الجذور التاريخية لهذا الانحطاط، بدل الاكتفاء بقراءة نتائجه الراهنة.

فالجمهورية، في حقيقتها، لم تُهزم اليوم، بل بيعت منذ زمن المختار ولد داداه عندما قدّم كرسي الحكم على مصلحة الوطن، وأسس لنظامٍ أحاديٍّ مغلقٍ تحت غطاء حزب الشعب الموريتاني. كان ذلك الانحراف هو البذرة الأولى للاستبداد، يوم تحوّل الحزب إلى دولة، والدولة إلى مزرعة شخصية، فاختُزل الوطن في الزعيم، وتحوّلت الديمقراطية إلى أناشيد، والتنمية إلى شعارات.

لقد أدخل المختار البلد في حرب الصحراء دون استعداد ولا إجماع وطني، فأهدر الأرواح، واستنزف المقدرات، وأضعف الجيش، وأفقد الدولة توازنها الخارجي. كانت تلك الحرب أول صفقةٍ خاسرةٍ في تاريخ الجمهورية، حيث رهنت مصير موريتانيا لصراعات إقليمية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وأظهرت بجلاء أن النظام لم يكن يرى في الوطن سوى وسيلة للبقاء في الكرسي.

ثم جاء انقلاب يوليو 1978 المبارك ليضع حدًّا لذلك الانزلاق، وينقذ البلد من براثن حربٍ عبثيةٍ وحكمٍ مغلقٍ لم يترك للموريتانيين سوى الفقر والانقسام. كانت تلك لحظة ميلادٍ لجمهوريةٍ جديدة، وإن كانت عسكرية الطابع، إلا أنها أعادت للدولة شيئًا من هيبتها، وفرضت سيادتها على مواردها، وبدأت ترسم ملامح نظام جمهوري فعلي، يتعامل مع المؤسسات لا مع الولاءات.

لكن سرعان ما تسللت نخبة المختار القديمة إلى دواليب الحكم مجددًا، مرتدية هذه المرة قبعةً عسكرية، لتستعيد امتيازاتها القديمة وتُعيد إنتاج نفسها بوسائل جديدة. ومع ما سُمّي لاحقًا بـ “الجمهورية الثانية”، بدأنا نشهد دورةً متكررة من إعادة تدوير الوجوه وتبديل الأقنعة دون أي تحولٍ جوهري في جوهر الدولة أو فلسفة الحكم.
كلما اشتدت نار الغضب الشعبي أو تعرّى الفشل الإداري، أُعيد طلاء المشهد بشعارات الإصلاح والاستمرارية، فيما الجوهر واحد: احتكار، ومحسوبية، وفساد ممنهج.

منذ ذلك الحين، لم تعد الجمهورية مشروعًا وطنيًا، بل آليةً لتقاسم الغنائم. تحولت الدولة إلى ريعٍ منظم، والإدارة إلى تركةٍ عائلية، والثروة إلى غنيمة. صار الولاء بديلاً عن الكفاءة، والقبيلة عن المؤسسة، والصفقات عن التخطيط. وهكذا أُجهضت الجمهورية الثانية قبل أن تكتمل، تمامًا كما أُجهضت الأولى يوم رُهنت إرادة الشعب لمغامراتٍ شخصية.

نعم، تقرير محكمة الحسابات اليوم يوجّه صفعةً مدويةً للضمير الوطني، لكنه ليس إلا المرآة الأخيرة التي تعكس خرابًا قديمًا بدأ منذ أن فُقدت البوصلة الأولى.
فمن يقرأ التاريخ يدرك أن الانحراف لم يبدأ من الفساد المالي، بل من الفساد السياسي والفكري، يوم قُدّست السلطة ونُسيت الدولة، ويوم صار “الحاكم هو الوطن”، و”النظام هو المبدأ”.

ومع ذلك، يبقى الأمل ممكنًا. فالجمهوريات لا تموت بالخيبة، بل تُبعث حين ينهض فيها أحرارها. والذين يكتبون اليوم بضميرٍ حيّ، يوقظون في الناس وعيًا غافيًا هو أول شروط الخلاص.

إن موريتانيا، الغنية بشعبها وثرواتها، لن تموت فقرًا بل جبنًا، كما قال صاحب المقال الأصلي، غير أن هذا الجبن لم يولد اليوم، بل يوم صمت الناس عن تحويل الجمهورية إلى ملكية، ويوم سُكت عن الحرب، وعن الحزب، وعن كل انحرافٍ باسم الشرعية.

فإن أردنا لجمهوريتنا أن تقوم من رمادها، فلنقطع مع الرجال كما مع العادات، مع الأحزاب التي تتاجر بالوهم، ومع النخب التي تعيد تدوير الفشل كل عقد.
ولنستعد ما فقدناه: جمهورية للناس، لا عليهم.
تلك هي البداية، وتلك هي المعركة التي تستحق أن تُخاض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق